الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية الرتبة في طلب الحسبة
.الْبَابُ السَّابِعُ وَالثَّلاَثُونَ: فِي الْحِسْبَةِ عَلَى الْأَطِبَّاءِ وَالْكَحَّالِينَ وَالْمُجَبِّرِينَ والجرائحيين: الطِّبُّ عِلْمٌ نَظَرِيٌّ وَعَمَلِيٌّ، أَبَاحَتْ الشَّرِيعَةُ عِلْمَهُ وَعَمَلَهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ الصِّحَّةِ وَدَفْعِ الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ عَنْ هَذِهِ الْبِنْيَةِ الشَّرِيفَةِ. وَالطَّبِيبُ هُوَ الْعَارِفُ بِتَرْكِيبِ الْبَدَنِ، وَمِزَاجِ الْأَعْضَاءِ، وَالْأَمْرَاضِ الْحَادِثَةِ فِيهَا، وَأَسْبَابِهَا وَأَعْرَاضِهَا وَعَلاَمَاتِهَا، وَالْأَدْوِيَةِ النَّافِعَةِ فِيهَا، وَالِاعْتِيَاضِ عَمَّا لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا، وَالْوَجْهِ فِي اسْتِخْرَاجِهَا، وَطَرِيقِ مُدَاوَاتِهَا، لِيُسَاوِيَ بَيْنَ الْأَمْرَاضِ وَالْأَدْوِيَةِ فِي كَمِّيَّاتِهَا، وَيُخَالِفَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ كَيْفِيَّاتِهَا. فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلاَ يَحِلُّ لَهُ مُدَاوَاةُ الْمَرْضَى، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى عِلاَجٍ يُخَاطِرُ فِيهِ، وَلاَ يَتَعَرَّضُ إلَى مَا لَمْ يُحْكِمْ عِلْمَهُ مِنْ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ مُلُوكَ الْيُونَانِ كَانُوا يَجْعَلُونَ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ حَكِيمًا مَشْهُورًا بِالْحِكْمَةِ، ثُمَّ يَعْرِضُونَ عَلَيْهِ بَقِيَّةَ أَطِبَّاءِ الْبَلَدِ لِيَمْتَحِنَهُمْ، فَمَنْ وَجَدَهُ مُقَصِّرًا فِي عَمَلِهِ أَمَرَهُ بِالِاشْتِغَالِ وَقِرَاءَةِ الْعِلْمِ، وَنَهَاهُ عَنْ الْمُدَاوَاةِ. وَيَنْبَغِي إذَا دَخَلَ الطَّبِيبُ عَلَى مَرِيضٍ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ سَبَبِ مَرَضِهِ، وَعَمَّا يَجِدُ مِنْ الْأَلَمِ، وَيَعْرِفَ السَّبَبَ وَالْعَلاَمَةَ وَالنَّبْضَ وَالْقَارُورَةَ، ثُمَّ يُرَتِّبَ لَهُ قَانُونًا مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَغَيْرِهَا؛ ثُمَّ يَكْتُبَ نُسْخَةً بِمَا ذَكَرَهُ لَهُ الْمَرِيضُ، وَبِمَا رَتَّبَهُ لَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَرَضِ، وَيُسَلِّمَ نُسْخَتَهُ لِأَوْلِيَاءِ الْمَرِيضِ، بِشَهَادَةِ مَنْ حَضَرَ مَعَهُ عِنْدَ الْمَرِيضِ. فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ حَضَرَ وَنَظَرَ إلَى دَائِهِ، وَسَأَلَ الْمَرِيضَ، وَرَتَّبَ لَهُ قَانُونًا عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَى الْحَالِ، وَكَتَبَ لَهُ نُسْخَةً أَيْضًا، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِمْ. وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَذَلِكَ، ثُمَّ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَهَكَذَا إلَى أَنْ يَبْرَأَ الْمَرِيضُ، أَوْ يَمُوتَ. فَإِنْ بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ أَخَذَ الطَّبِيبُ أُجْرَتَهُ وَكَرَامَتَهُ، وَإِنْ مَاتَ حَضَرَ أَوْلِيَاؤُهُ عِنْدَ الْحَكِيمِ الْمَشْهُورِ، وَعَرَضُوا عَلَيْهِ النُّسَخَ الَّتِي كَتَبَهَا لَهُمْ الطَّبِيبُ، فَإِنْ رَآهَا عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَصِنَاعَةِ الطِّبِّ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلاَ تَقْصِيرٍ مِنْ الطَّبِيبِ أَعْلَمَهُمْ، وَإِنْ رَأَى الْأَمْرَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ: " خُذُوا دِيَةَ صَاحِبِكُمْ مِنْ الطَّبِيبِ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ بِسُوءِ صِنَاعَتِهِ وَتَفْرِيطِهِ ". فَكَانُوا يَحْتَاطُونَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الشَّرِيفَةِ إلَى هَذَا الْحَدِّ، حَتَّى لاَ يَتَعَاطَى الطِّبَّ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلاَ يَتَهَاوَنُ الطَّبِيبُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ. وَيَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِمْ عَهْدَ بُقْرَاطَ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَطِبَّاءِ، وَيُحَلِّفَهُمْ أَلاَ يُعْطُوا أَحَدًا دَوَاءً مُضِرًّا، وَلاَ يُرَكِّبُوا لَهُ سُمًّا، وَلاَ يَصِفُوا التَّمَائِمَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعَامَّةِ، وَلاَ يَذْكُرُوا لِلنِّسَاءِ الدَّوَاءَ الَّذِي يُسْقِطُ الْأَجِنَّةَ، وَلاَ لِلرِّجَالِ الدَّوَاءَ الَّذِي يَقْطَعُ النَّسْلَ؛ وَلْيَغُضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَنْ الْمَحَارِمِ عِنْدَ دُخُولِهِمْ عَلَى الْمَرْضَى، وَلاَ يُفْشُوا الْأَسْرَارَ، وَلاَ يَهْتِكُوا الْأَسْتَارَ..فَصْلٌ: وَيَنْبَغِي لِلطَّبِيبِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ جَمِيعُ آلاَتِ الطِّبِّ عَلَى الْكَمَالِ، وَهِيَ كَلْبَاتُ الْأَضْرَاسِ، وَمَكَاوِي الطِّحَالِ، وَكَلْبَاتُ الْعَلَقِ، وَزَرَّاقَاتُ الْقُولَنْجِ، وَزَرَّاقَاتُ الذَّكَرِ، وَمِلْزَمُ الْبَوَاسِيرِ، وَمِخْرَطُ الْمَنَاخِيرِ، وَمِنْجَلُ النَّوَاصِيرِ، وَقَالِبُ التَّشْمِيرِ، وَرَصَاصُ التَّثْقِيلِ، وَمِفْتَاحُ الرَّحِمِ، وَبَوَّارُ النِّسَاءِ، وَمُكَمِّدَةُ الْحَشَا، وَقَدَحُ الشَّوْصَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي صِنَاعَةِ الطِّبِّ، غَيْرَ آلَةِ الْكَحَّالِينَ والجرائحيين، مِمَّا يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَمْتَحِنَ الْأَطِبَّاءَ بِمَا ذَكَرَهُ حُنَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ " مِحْنَةُ الطَّبِيبِ ". وَأَمَّا كِتَابُ "مِحْنَةُ الطَّبِيبِ" لِجَالِينُوسَ، فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ مِنْ الْأَطِبَّاءِ يَقُومُ بِمَا شَرَطَهُ جَالِينُوسُ عَلَيْهِمْ فِيهِ..فَصْلٌ: وَأَمَّا الْكَحَّالُونَ، فَيَمْتَحِنُهُمْ الْمُحْتَسِبُ بِكِتَابِ حُنَيْنِ بْنِ إِسْحَاقَ كَذَلِكَ، أَعْنِي الْعَشْرَ مَقَالاَتٍ فِي الْعَيْنِ، فَمَنْ وَجَدَهُ فِيمَا امْتَحَنَهُ بِهِ عَارِفًا بِتَشْرِيحِ عَدَدِ طَبَقَاتِ الْعَيْنِ السَّبْعَةِ، وَعَدَدِ رُطُوبَاتِهَا الثَّلاَثَةِ، وَعَدَدِ أَمْرَاضِهَا الثَّلاَثِ، وَمَا يَتَفَرَّعُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرَاضِ، وَكَانَ خَبِيرًا بِتَرْكِيبِ الْأَكْحَالِ وَأَمْزِجَةِ الْعَقَاقِيرِ، أَذِنَ لَهُ الْمُحْتَسِبُ بِالتَّصَدِّي لِمُدَاوَاةِ أَعْيُنِ النَّاسِ. وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُفَرِّطَ الْكَحَّالُ فِي شَيْءٍ مِنْ آلاَتِ صَنْعَتِهِ، مِثْلِ صنانير السَّبَلِ، وَالظِّفْرَةِ، وَمَحَكِّ الْجَرَبِ، وَمَبَاضِعِ الْفَصْدِ، وَدَرَجِ الْمَكَاحِلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا كَحَّالُو الطُّرُقَاتِ فَلاَ يُوثَقُ بِأَكْثَرِهِمْ، إذْ لاَ دِينَ لَهُمْ يَصُدُّهُمْ عَنْ التَّهَجُّمِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ بِالْقَطْعِ وَالْكَحْلِ، بِغَيْرِ عِلْمٍ وَمَخْبَرَةٍ بِالْأَمْرَاضِ وَالْعِلَلِ الْحَادِثَةِ؛ فَلاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَرْكَنَ إلَيْهِمْ فِي مُعَالَجَةِ عَيْنَيْهِ، وَلاَ يَثِقَ بِإِكْحَالِهِمْ وأشيافاتهم. فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَصْنَعُ أَشْيَافًا أَصْلُهَا مِنْ النَّشَا وَالصَّمْغِ، وَيَصْبُغُهَا أَلْوَانًا مُخْتَلِفَةً، فَيَصْبُغُ الْأَحْمَرَ بالأسريقون، وَالْأَخْضَرَ بِالْكُرْكُمِ وَالنِّيلِ، وَالْأَسْوَدَ بالأقاقيا، وَالْأَصْفَرَ بِالزَّعْفَرَانِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ أَشْيَافَ ماميتا. وَيَجْعَلُ أَصْلَهُ مِنْ الْبَانِ الْمِصْرِيِّ، وَيَعْجِنُهُ بِالصَّمْغِ الْمَحْلُولِ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ كُحْلًا مِنْ نَوَى الْإِهْلِيلِجِ الْمُحَرَّقِ وَالْفُلْفُلِ. وَجَمِيعُ غُشُوشِ أَكْحَالِهِمْ لاَ يُمْكِنُ حَصْرُ مَعْرِفَتِهَا، فَيُحَلِّفُهُمْ الْمُحْتَسِبُ عَلَى ذَلِكَ، إذْ لاَ يُمْكِنُهُ مَنْعُهُمْ مِنْ الْجُلُوسِ لِمُعَالَجَةِ أَعْيُنِ النَّاسِ..فَصْلٌ: وَأَمَّا الْمُجَبِّرُونَ، فَلاَ يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَدَّى لِلْجَبْرِ إلاَ بَعْدَ أَنْ يُحْكِمَ مَعْرِفَةَ الْمَقَالَةِ السَّادِسَةِ مِنْ كُنَّاشِ بولص فِي الْجَبْرِ، وَأَنْ يَعْلَمَ عَدَدَ عِظَامِ الْآدَمِيِّ - وَهُوَ مِائَتَا عَظْمٍ وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ عَظْمًا - وَصُورَةَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْهَا، وَشَكْلَهُ وَقَدْرَهُ، حَتَّى إذَا انْكَسَرَ مِنْهَا شَيْءٌ أَوْ انْخَلَعَ رَدَّهُ إلَى مَوْضِعِهِ، عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا؛ فَيَمْتَحِنُهُمْ الْمُحْتَسِبُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ..فَصْلٌ: وَأَمَّا الجرائحيون، فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَةُ كِتَابِ جَالِينُوسَ الْمَعْرُوفِ بقاطاجانس فِي الْجِرَاحَاتِ وَالْمَرَاهِمِ، وَأَيْضًا كِتَابُ الزَّهْرَاوِيِّ فِي الْجِرَاحِ، وَأَنْ يَعْرِفُوا التَّشْرِيحَ وَأَعْضَاءَ الْإِنْسَانِ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْعَضَلِ وَالْعُرُوقِ وَالشَّرَايِينِ وَالْأَعْصَابِ، لِيَتَجَنَّبَ الْجَرَّاحُ ذَلِكَ فِي وَقْتَ فَتْحِ الْمَوَادِّ وَقَطْعِ الْبَوَاسِيرِ. وَيَكُونُ مَعَهُ دَسْتُ الْمَبَاضِعِ، فِيهِ مَبَاضِعُ مُدَوَّرَاتُ الرَّأْسِ، وَالْمُوَرِّبَاتُ، وَالْحَرَبَاتُ، وَفَأْسُ الْجَبْهَةِ، وَمِنْشَارُ الْقَطْعِ، وَمِجْرَفَةُ الْأُذُنِ، وَوَرْدُ السَّلَعِ، وَمَرَّ هَمْدَانَ الْمَرَاهِمِ، وَدَوَاءُ الكندر الْقَاطِعُ لِلدَّمِ، الَّذِي قَدَّمْنَا صِفَتَهُ. وَقَدْ يُبَهْرِجُونَ عَلَى النَّاسِ بِعِظَامٍ تَكُونُ مَعَهُمْ فَيَدُسُّونَهَا فِي الْجَرْحِ، ثُمَّ يُخْرِجُونَهَا مِنْهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ النَّاسِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ أَدْوِيَتَهُمْ الْقَاطِعَةَ أَخْرَجَتْهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَضَعُ مَرَاهِمَ مِنْ الْكِلْسِ الْمَغْسُولِ بِالزَّيْتِ، ثُمَّ يَصْبُغُ لَوْنَهُ أَحْمَرَ بِالْمَغْرَةِ، أَوْ أَخْضَرَ بِالْكُرْكُمِ وَالنِّيلِ، أَوْ أَسْوَدَ بِالْفَحْمِ الْمَسْحُوقِ؛ فَيَعْتَبِرُ عَلَيْهِمْ الْعَرِيفُ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ..الْبَابُ الثَّامِنُ وَالثَّلاَثُونَ: فِي الْحِسْبَةِ عَلَى مُؤَدِّبِي الصِّبْيَانِ: لاَ يَجُوزُ لَهُمْ تَعْلِيمُ الْخَطِّ لِلصِّبْيَانِ فِي الْمَسَاجِدِ، لِأَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِتَنْزِيهِ الْمَسَاجِدِ مِنْ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ»؛ لِأَنَّهُمْ يُسَوِّدُونَ حِيطَانَهَا، وَيُنَجِّسُونَ أَرْضَهَا، إذْ لاَ يَحْتَرِزُونَ مِنْ الْبَوْلِ وَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ؛ بَلْ يَتَّخِذُونَ لِلتَّعْلِيمِ حَوَانِيتَ فِي الدُّرُوبِ وَأَطْرَافِ الْأَسْوَاقِ..فَصْلٌ: وَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي لِلْمُؤَدِّبِ أَنْ يُعَلِّمَ الصَّبِيَّ السُّوَرَ الْقِصَارَ مِنْ الْقُرْآنِ، بَعْدَ حِذْقِهِ بِمَعْرِفَةِ الْحُرُوفِ وَضَبْطِهَا بِالشَّكْلِ، وَيُدَرِّجُهُ بِذَلِكَ حَتَّى يَأْلَفَهُ طَبْعُهُ، ثُمَّ يُعَرِّفُهُ عَقَائِدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، ثُمَّ أُصُولَ الْحِسَابِ، وَمَا يُسْتَحْسَنُ مِنْ الْمُرَاسَلاَتِ وَالْأَشْعَارِ دُونَ سَخِيفِهَا وَمُسْتَرْذَلِهَا. وَفِي الرَّوَاحِ يَأْمُرُهُمْ الْمُؤَدِّبُ بِتَجْوِيدِ الْخَطِّ عَلَى الْمِثَالِ، وَيُكَلِّفُهُمْ عَرْضَ مَا أَمْلاَهُ عَلَيْهِمْ حِفْظًا غَائِبًا لاَ نَظَرًا. وَمَنْ كَانَ عُمْرُهُ فَوْقَ سَبْعِ سِنِينَ أَمَرَهُ الْمُؤَدِّبُ بِالصَّلاَةِ فِي جَمَاعَةٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «عَلِّمُوا صِبْيَانَكُمْ الصَّلاَةَ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْرٍ». وَيَأْمُرُهُمْ الْمُؤَدِّبُ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِهِمَا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِمَا وَتَقْبِيلِ أَيْدِيهِمَا عِنْدَ الدُّخُولِ إلَيْهِمَا؛ وَيَضْرِبُهُمْ عَلَى إسَاءَةِ الْأَدَبِ وَالْفُحْشِ مِنْ الْكَلاَمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْخَارِجَةِ عَنْ قَانُونِ الشَّرْعِ، مِثْلِ اللَّعِبِ بِالْكِعَابِ وَالْبَيْضِ وَالسَّيْرِ ونردشير، وَجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقِمَارِ؛ وَلاَ يَضْرِبُ صَبِيًّا بِعَصًا غَلِيظَةً تَكْسِرُ الْعَظْمَ، وَلاَ رَقِيقَةً تُؤْلِمُ الْجِسْمَ، بَلْ تَكُونُ وَسَطًا؛ وَيَتَّخِذُ مِجْلَدًا عَرِيضَ السَّيْرِ، وَيَعْتَمِدُ فِي ضَرْبِهِ عَلَى اللَّوَايَا وَالْأَفْخَاذِ وَأَسَافِلِ الرِّجْلَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ لاَ يُخْشَى مِنْهَا مَرَضٌ وَلاَ غَائِلَةٌ..فَصْلٌ: وَلاَ يَنْبَغِي لِلْمُؤَدِّبِ أَنْ يَسْتَخْدِمَ أَحَدَ الصِّبْيَانِ فِي حَوَائِجِهِ وَأَشْغَالِهِ الَّتِي فِيهَا عَارٌ عَلَى آبَائِهِمْ، كَنَقْلِ الزِّبْلِ وَحَمْلِ الْحِجَارَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلاَ يُرْسِلُهُ إلَى دَارِهِ وَهِيَ خَالِيَةٌ، لِئَلاَ تَتَطَرَّقَ إلَيْهِ التُّهْمَةُ. وَلاَ يُرْسِلُ صَبِيًّا مَعَ امْرَأَةٍ لِيَكْتُبَ لَهَا كِتَابًا، وَلاَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْفُسَّاقِ يَحْتَالُونَ عَلَى الصِّبْيَانِ بِذَلِكَ. وَيَكُونُ السَّائِقُ لَهُمْ أَمِينًا ثِقَةً مُتَأَهِّلًا؛ لِأَنَّهُ يَتَسَلَّمُ الصِّبْيَانَ فِي الْغُدُوِّ وَالرَّوَاحِ، وَيَنْفَرِدُ بِهِمْ فِي الْأَمَاكِنِ الْخَالِيَةِ، وَيَدْخُلُ عَلَى النِّسْوَانِ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ. وَلاَ يُعَلِّمُ الْمُؤَدِّبُ الْخَطَّ امْرَأَةً وَلاَ جَارِيَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُ الْمَرْأَةَ شَرًّا، وَقِيلَ: إنَّ مَثَلَ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَتَعَلَّمُ الْخَطَّ مَثَلُ حَيَّةٍ تُسْقَى سُمًّا. وَيَنْبَغِي لِلْمُؤَدِّبِ أَنْ يَمْنَعَ الصِّبْيَانَ مِنْ حِفْظِ شَيْءٍ مِنْ شِعْرِ ابْنِ الْحَجَّاجِ وَالنَّظَرِ فِيهِ، وَيَضْرِبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ دِيوَانُ صَرِيعِ الدَّلاَ، فَإِنَّهُ لاَ خَيْرَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْأَشْعَارُ الَّتِي عَمِلَتْهَا الرَّوَافِضُ فِي أَهْلِ الْبَيْتِ؛ فَلاَ يُعَرِّفُهُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ يُعَلِّمُهُمْ الْأَشْعَارَ الَّتِي مُدِحَتْ بِهَا الصَّحَابَةُ رضوان الله عليهم، لِيُرَسِّخَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ..الْبَابُ التَّاسِعُ وَالثَّلاَثُونَ: فِي الْحِسْبَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ: لاَ يَصِحُّ عَقْدُ الذِّمَّةِ إلاَ مِنْ الْإِمَامِ، أَوْ مِمَّنْ يُفَوِّضُ إلَيْهِ الْإِمَامُ؛ وَلاَ تُعْقَدُ الذِّمَّةُ إلاَ لِمَنْ لَهُ كِتَابٌ أَوْ شِبْهُ كِتَابٍ مِنْ الْكُفَّارِ، كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس. وَأَمَّا غَيْرُ هَؤُلاَءِ مِمَّنْ لاَ كِتَابَ لَهُمْ وَلاَ شِبْهَ كِتَابٍ، كَالْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَمَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلاَمِ، أَوْ مَنْ أَظْهَرَ الزَّنْدَقَةَ وَالْإِلْحَادَ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُمْ عَقْدُ الذِّمَّةِ، وَلاَ يُقَرُّونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهُمْ غَيْرُ الْإِسْلاَمِ..فَصْلٌ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ مَا شَرَطَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ الَّذِي كَتَبَهُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ؛ وَيُؤْخَذُونَ بِلُبْسِ الْغِيَارِ، فَإِنْ كَانَ يَهُودِيًّا وَضَعَ عَلَى كَتِفِهِ خَيْطًا أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا شَدَّ فِي وَسَطِهِ زُنَّارًا وَعَلَّقَ فِي عُنُقِهِ صَلِيبًا، وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً لَبِسَتْ خُفَّيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْيَضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ. وَإِذَا عَبَرَ الذِّمِّيُّ إلَى الْحَمَّامِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي عُنُقِهِ طَوْقٌ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ رَصَاصٍ، لِيَتَمَيَّزَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ. وَيَمْنَعُهُمْ الْمُحْتَسِبُ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ وَحَمْلِ السِّلاَحِ وَالتَّقَلُّدِ بِالسُّيُوفِ، وَإِذَا رَكِبُوا الْبِغَالَ رَكِبُوهَا بِالْأَكُفِّ عَرْضًا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ. وَلاَ يَرْفَعُونَ بُنْيَانَهُمْ عَنْ بُنْيَانِ الْمُسْلِمِينَ "وَلاَ يَتَصَدَّرُونَ فِي الْمَجَالِسِ، وَلاَ يُزَاحِمُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي الطُّرُقَاتِ، بَلْ يُلْجَئُونَ إلَى أَضْيَقِ الطُّرُقَاتِ؛ وَلاَ يُبْدَءُونَ بِالسَّلاَمِ، وَلاَ يُرَحَّبُ بِهِمْ فِي الْمَجَالِسِ. وَيَشْتَرِطُ الْمُحْتَسِبُ عَلَيْهِمْ ضِيَافَةَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْزَالَهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ؛ وَيُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَالْجَهْرِ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَضَرْبِ النَّاقُوسِ، وَمِنْ إظْهَارِ أَعْيَادِهِمْ، وَرَفْعِ الصَّوْتِ عَلَى مَوْتَاهُمْ. فَجَمِيعُ ذَلِكَ اشْتَرَطَهُ عَلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِي كِتَابِهِ، فَيُرَاعِي الْمُحْتَسِبُ أَحْوَالَهُمْ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَيُجْبِرُهُمْ عَلَيْهِ..فَصْلٌ: وَيَأْخُذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ عَلَى قَدْرِ طَبَقَاتِهِمْ - عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعِيلِ دِينَارًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ دِينَارَيْنِ، وَالْغَنِيِّ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ - عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ. فَإِذَا جَاءَ الْمُحْتَسِبُ أَوْ الْعَامِلُ لِأَخْذِ الْجِزْيَةِ أَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ لَطَمَهُ بِيَدِهِ عَلَى صَفْحَةِ عُنُقِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: "أَدِّ الْجِزْيَةَ يَا كَافِرُ" وَيُخْرِجُ الذِّمِّيُّ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ مَطْبُوقَةً عَلَى الْجِزْيَةِ، فَيُعْطِيهَا لَهُ بِذِلَّةٍ وَانْكِسَارٍ. وَيَشْتَرِطُ الْمُحْتَسِبُ عَلَيْهِمْ مَعَ الْجِزْيَةِ الْتِزَامَ أَحْكَامِ الْإِسْلاَمِ، فَإِنْ امْتَنَعَ الذِّمِّيُّ مِنْ لُزُومِ الْأَحْكَامِ - أَوْ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ، أَوْ أَصَابَهَا بِاسْمِ نِكَاحٍ، أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ، أَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ آوَى الْمُشْرِكِينَ، أَوْ دَلَّهُمْ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا - انْتَقَضَتْ ذِمَّتُهُ فِي ذَلِكَ جَمِيعِهِ، وَقُتِلَ فِي الْحَالِ، وَغُرِّمَ مَالَهُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ قَدْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ الْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ. فَعَلَى الْمُحْتَسِبِ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَإِلْزَامُهُمْ بِجَمِيعِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ..الْبَابُ الْأَرْبَعُونَ: يَشْتَمِلُ عَلَى جُمَلٍ وَتَفَاصِيلَ فِي أُمُورِ الْحِسْبَةِ: قَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ الْحِسْبَةِ عَلَى أَرْبَابِ الصَّنَائِعِ الْمَشْهُورَةِ، وَمِنْ كَشْفِ غُشُوشِهِمْ وَتَدْلِيسِهِمْ، مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ لِلْمُحْتَسِبِ، وَأَصْلٌ يَقِيسُ عَلَيْهِ مَا عَدَاهُ، مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ. وَسَأَذْكُرُ فِي هَذَا الْبَابِ تَفَاصِيلَ جُمَلٍ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَأَذْكُرُ مَا يَلْزَمُ الْمُحْتَسِبَ فِعْلُهُ مِنْ أُمُورِ الْحِسْبَةِ فِي صَالِحِ الرَّعِيَّةِ، غَيْرَ مَا ذَكَرْنَاهُ. فَمِنْ ذَلِكَ السَّوْطُ وَالدِّرَّةُ وَالطُّرْطُورُ: أَمَّا السَّوْطُ فَيَتَّخِذُهُ وَسَطًا، لاَ بِالْغَلِيظِ الشَّدِيدِ وَلاَ بِالرَّقِيقِ اللَّيِّنِ، بَلْ يَكُونُ بَيْنَ سَوْطَيْنِ، حَتَّى لاَ يُؤْلِمَ الْجِسْمَ، وَلاَ يُخْشَى مِنْهُ غَائِلَةٌ؛ وَأَمَّا الدِّرَّةُ فَتَكُونُ مِنْ جِلْدِ الْبَقَرِ أَوْ الْجَمَلِ مَحْشُوَّةً بِنَوَى التَّمْرِ؛ وَأَمَّا الطُّرْطُورُ فَيَكُونُ مِنْ اللِّبْدِ، مَنْقُوشًا بِالْخِرَقِ الْمُلَوَّنَةِ، مُكَلَّلًا بِالْجَزْعِ وَالْوَدَعِ وَالْأَجْرَاسِ، وَأَذْنَابِ الثَّعَالِبِ وَالسَّنَانِيرِ. وَتَكُونُ هَذِهِ الْآلَةُ جَمِيعُهَا مُعَلَّقَةً عَلَى دِكَّةِ الْمُحْتَسِبِ يُشَاهِدُهَا النَّاسُ، فَتَرْعَدُ مِنْهَا قُلُوبُ الْمُفْسِدِينَ، وَيَنْزَجِرُ بِهَا أَهْلُ التَّدْلِيسِ. فَإِذَا عَثَرَ الْمُحْتَسِبُ بِشَارِبِ خَمْرٍ جَلَدَهُ بِالسَّوْطِ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً، وَإِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي جَلْدِ الثَّمَانِينَ جَلَدَهُ، لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه جَلَدَ شَارِبَ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، بِفَتْوَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه. فَيُجَرِّدُهُ الْمُحْتَسِبُ عَنْ ثِيَابِهِ، ثُمَّ يَرْفَعُ يَدَهُ بِالسَّوْطِ حَتَّى يَبِينَ بَيَاضُ إبْطِهِ، وَيُفَرِّقُ الضَّرْبَ عَلَى كَتِفَيْهِ وَأَلْيَتَيْهِ وَفَخْذَيْهِ؛ وَإِنْ كَانَ زَانِيًا - وَهُوَ بِكْرٌ - جَلَدَهُ فِي مَلاَ مِنْ النَّاسِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ}؛ وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً جَلَدَهَا وَهِيَ فِي إزَارِهَا وَثِيَابِهَا. وَأَمَّا الزَّانِي الْمُحْصَنُ، فَيَجْمَعُ الْمُحْتَسِبُ النَّاسَ حَوْلَهُ خَارِجَ الْبَلَدِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِرَجْمِهِ، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَاعِزٍ؛ وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً مُحْصَنَةً حَفَرَ لَهَا حُفْرَةً فِي الْأَرْضِ، وَأَجْلَسَهَا فِيهَا إلَى وَسَطِهَا، ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ بِرَجْمِهَا، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْغَامِدِيَّةِ؛ وَإِنْ كَانَ الْمُذْنِبُ لاَطَ بِغُلاَمٍ أَلْقَاهُ الْمُحْتَسِبُ مِنْ أَعْلَى شَاهِقٍ فِي الْبَلَدِ. هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ عِنْدَ الْإِمَامِ، ثُمَّ يَتَوَلاَهُ الْمُحْتَسِبُ..فَصْلٌ: وَأَمَّا التَّعْزِيرُ فَعَلَى قَدْرِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَقَدْرِ الْجِنَايَةِ؛ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ تَعْزِيرُهُ بِالْقَوْلِ وَالتَّوْبِيخِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُضْرَبُ بِالسَّوْطِ وَلاَ يَبْلُغُ بِهِ أَدْنَى الْحُدُودِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُضْرَبُ بِالدِّرَّةِ وَيُلْبَسُ الطُّرْطُورَ وَيُرْكَبُ عَلَى جَمَلٍ أَوْ حِمَارٍ. وَإِذَا رَأَى الْمُحْتَسِبُ رَجُلًا حَامِلَ خَمْرٍ، أَوْ يَلْعَبُ بِمَلْهَاةٍ، كَالْعُودِ وَالْمِعْزَفَةِ وَالطُّنْبُورِ وَالْبَرْبَطِ وَالْمِزْمَارِ، عَزَّرَهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي حَقِّهِ، بَعْدَ إرَاقَةِ الْخَمْرِ وَكَسْرِ الْمَلْهَاةِ؛ وَكَذَلِكَ إنْ رَأَى رَجُلًا أَجْنَبِيًّا مَعَ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، فِي خَلْوَةٍ أَوْ طَرِيقٍ. وَيَلْزَمُ الْمُحْتَسِبَ أَنْ يَتَفَقَّدَ الْمَوَاضِعَ الَّتِي تَجْتَمِعُ فِيهَا النِّسْوَانُ، مِثْلَ سُوقِ الْغَزْلِ وَالْكَتَّانِ، وَشُطُوطِ الْأَنْهَارِ، وَأَبْوَابِ حَمَّامَاتِ النِّسَاءِ. وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنْ رَأَى شَابًّا مُنْفَرِدًا بِامْرَأَةٍ، وَيُكَلِّمُهَا فِي غَيْرِ مُعَامَلَةٍ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَيَنْظُرُ إلَيْهَا، عَزَّرَهُ وَمَنَعَهُ مِنْ الْوُقُوفِ هُنَاكَ؛ فَكَثِيرٌ مِنْ الشُّبَّانِ الْمُفْسِدِينَ يَقِفُونَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَلَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ غَيْرَ التَّلاَعُبِ عَلَى النِّسْوَانِ. ثُمَّ يَتَفَقَّدُ الْمُحْتَسِبُ مَجَالِسَ الْوُعَّاظِ، فَلاَ يَدَعُ الرِّجَالَ يَخْتَلِطُونَ بِالنِّسَاءِ، وَيَجْعَلُ بَيْنَهُمْ سِتَارَةً؛ فَإِذَا انْفَضَّ الْمَجْلِسُ خَرَجَ الرِّجَالُ وَذَهَبُوا فِي طَرِيقٍ، ثُمَّ تَخْرُجُ النِّسَاءُ وَيَذْهَبْنَ فِي طَرِيقٍ آخَرَ؛ فَمَنْ وَقَفَ مِنْ الشَّبَابِ فِي طَرِيقِهِنَّ لِغَيْرِ حَاجَةٍ عَزَّرَهُ الْمُحْتَسِبُ. ثُمَّ يَتَفَقَّدُ الْمَآتِمَ وَالْمَقَابِرَ، فَإِذَا سَمِعَ نَادِبَةً أَوْ نَائِحَةً عَزَّرَهَا وَمَنَعَهَا؛ لِأَنَّ النُّوَاحَ حَرَامٌ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «النَّائِحَةُ وَمَنْ حَوْلَهَا فِي النَّارِ». وَيَمْنَعُ الْمُحْتَسِبُ النِّسَاءَ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ « لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ». وَإِذَا خَرَجَتْ جِنَازَةٌ أَمَرَ الْمُحْتَسِبُ النِّسَاءَ أَنْ يَتَأَخَّرْنَ عَنْ الرِّجَالِ، وَلاَ يَخْتَلِطْنَ بِهِمْ، وَيَمْنَعُهُنَّ مِنْ كَشْفِ وُجُوهِهِنَّ وَرُءُوسِهِنَّ خَلْفَ الْمَيِّتِ، وَيَأْمُرُ مُنَادِيًا يُنَادِي فِي الْبَلَدِ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ؛ وَالْأَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ تَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ. وَمَتَى سَمِعَ الْمُحْتَسِبُ بِامْرَأَةٍ عَاهِرَةٍ، أَوْ مُغَنِّيَةٍ، اسْتَتَابَهَا عَنْ مَعْصِيَتِهَا، فَإِنْ عَادَتْ عَزَّرَهَا وَنَفَاهَا مِنْ الْبَلَدِ؛ وَكَذَلِكَ يَصْنَعُ بِالْمُخَنَّثِينَ وَالْمُرْدَانِ الْمَشْهُورِينَ بِالْفَسَادِ مَعَ الرِّجَالِ. وَيَمْنَعُ الْمُحْتَسِبُ الْخُنْثَى مِنْ حَلْقِ لِحْيَتِهِ أَوْ نَتْفِهَا، وَدُخُولِهِ عَلَى النِّسْوَانِ؛ وَكَذَلِكَ الْأَمْرَدُ النكريش، مَتَى حَلَقَ لِحْيَتَهُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِهِ، فَيُعَزِّرُهُ الْمُحْتَسِبُ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ..فَصْلٌ: وَيُشْرِفُ الْمُحْتَسِبُ عَلَى الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ، وَيَأْمُرُ قَوَمَتَهَا بِكَنْسِهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ وَتَنْظِيفِهَا مِنْ الْأَوْسَاخِ، وَنَفْضِ حُصُرِهَا مِنْ الْغُبَارِ، وَمَسْحِ حِيطَانِهَا، وَغَسْلِ قَنَادِيلِهَا وَإِشْعَالِهَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ. وَيَأْمُرُهُمْ بِغَلْقِ أَبْوَابِهَا عَقِيبَ كُلِّ صَلاَةٍ، وَصِيَانَتِهَا مِنْ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ، وَمِمَّنْ يَأْكُلُ فِيهَا الطَّعَامَ أَوْ يَنَامُ، أَوْ يَعْمَلُ صِنَاعَةً، أَوْ يَبِيعُ سِلْعَةً، أَوْ يَنْشُدُ ضَالَّةً، أَوْ يَجْلِسُ فِيهَا لِلنَّاسِ لِحَدِيثِ الدُّنْيَا؛ فَجَمِيعُ ذَلِكَ قَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَنْزِيهِ الْمَسَاجِدِ عَنْهُ وَكَرَاهِيَةِ فِعْلِهِ. وَيَتَقَدَّمُ الْمُحْتَسِبُ إلَى جِيرَانِ كُلِّ مَسْجِدٍ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ عِنْدَ الْآذَانِ؛ لِإِظْهَارِ مَعَالِمِ الدِّينِ وَإِشْهَارِ شِعَارِ الْإِسْلاَمِ، سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ لِكَثْرَةِ الْبِدَعِ وَاخْتِلاَفِ الْأَهْوَاءِ، وَتَنَوُّعِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَمَا قَدْ صَرَّحُوا بِهِ مِنْ تَعْطِيلِ الشَّرِيعَةِ وَإِبْطَالِ أَحْكَامِ الْإِسْلاَمِ؛ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إظْهَارُ أَرْكَانِ الْإِسْلاَمِ، وَإِشْهَارُ الشَّرِيعَةِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ، لِتَقْوَى عَقَائِدُ الْعَامَّةِ..فَصْلٌ: وَلاَ يُؤَذِّنُ فِي الْمَنَارَةِ إلاَ عَدْلٌ ثِقَةٌ أَمِينٌ عَارِفٌ بِأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمُؤَذِّنُونَ أُمَنَاءُ، وَالْأَئِمَّةُ ضُمَنَاءُ، فَرَحِمَ اللَّهُ الْأَئِمَّةَ، وَغَفَرَ لِلْمُؤَذِّنِينَ» وَيَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَمْتَحِنَهُمْ بِمَعْرِفَةِ الْأَوْقَاتِ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ مَنَعَهُ مِنْ الْأَذَانِ حَتَّى يَعْرِفَهَا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَذَّنَ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ، فَيَسْمَعُهُ الْعَامَّةُ فَيُصَلُّونَ قَبْلَ الْوَقْتِ، فَلاَ تَصِحُّ صَلاَتُهُمْ، فَيَكُونَ هُوَ السَّبَبَ فِي إفْسَادِ صَلاَةِ النَّاسِ؛ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْوَقْتِ، وَيَقْرَأُ بَابَ الْأَذَانِ وَالْإِمَامَةِ فِي الْفِقْهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ صَبِيًّا حَسَنَ الصَّوْتِ. وَيَنْهَى الْمُحْتَسِبُ عَنْ النَّعْيِ فِي الْأَذَانِ، وَهُوَ التَّطْرِيبُ وَالتَّمْطِيطُ؛ وَيَأْمُرُهُ إذَا صَعَدَ الْمَنَارَةَ أَنْ يَغُضَّ بَصَرَهُ عَنْ النَّظَرِ إلَى دُورِ النَّاسِ، وَيَأْخُذُ عَلَيْهِ الْعَهْدَ فِي ذَلِكَ؛ وَلاَ يَصْعَدُ إلَى الْمَنَارَةِ غَيْرُ الْمُؤَذِّنِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلاَةِ. وَيَنْبَغِي لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِمَنَازِلِ الْقَمَرِ وَشَكْلِ كَوَاكِبِ كُلِّ مَنْزِلَةٍ، لِيَعْلَمَ أَوْقَاتَ اللَّيْلِ وَمُضِيَّ سَاعَاتِهِ، وَهِيَ ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ مَنْزِلَةً: الشَّرَطَانِ، وَالْبُطَيْنُ، وَالثُّرَيَّا، وَالدَّبَرَانُ، وَالْهَقْعَةُ، وَالْهَنْعَةُ، وَالذِّرَاعُ، وَالنَّثْرَةُ، وَالطَّرْفُ، وَالْجَبْهَةُ، والخراتان، وَالصِّرْفَةُ، وَالْعُوَاءُ، وَالسِّمَاكُ، وَالْغَفِرُ، وَالزِّبَانَانِ، وَالْإِكْلِيلُ، وَالْقَلْبُ، وَالشَّوْلَةُ، وَالنَّعَائِمُ، وَالْبَلْدَةُ، وَسَعْدُ الذَّابِحِ، وَسَعْدُ بَلْعٍ، وَسَعْدُ السُّعُودِ، وَسَعْدُ الْأَخْبِيَةِ، وَالْفَرْغُ الْمُقَدَّمُ، وَالْفَرْغُ الْمُؤَخَّرُ، وَبَطْنُ الْحُوتِ - وَهُوَ الرِّشَاءُ. فَهَذِهِ جُمْلَةُ عَدَدِ مَنَازِلِ الْقَمَرِ، وَالصُّبْحُ يَدُومُ وَيَطْلُعُ فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ مِنْ هَذِهِ ثَلاَثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْمَنْزِلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، فَإِنْ عَرَفَ الْمُؤَذِّنُ فِي أَيِّ مَنْزِلَةِ هُوَ الصُّبْحُ نَظَرَ إلَى الْمَنْزِلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ فِي وَسَطِ السَّمَاءِ، فَيَعْرِفُ حِينَئِذٍ الطَّالِعَ وَالسَّاقِطَ، وَكَمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصُّبْحِ، وَهَذَا فِيهِ عِلْمٌ وَحِسَابٌ يَطُولُ شَرْحُهُ. فَمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ بِكِتَابِ الْأَنْوَاءِ لِابْنِ قُتَيْبَةَ، فَلاَ غِنَى لِلْمُؤَذِّنِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، لِيَحْتَاطَ عَلَى مَعْرِفَةِ الصُّبْحِ؛ وَيَجُوزُ لِلْمُؤَذِّنِ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الْأَذَانِ. وَأَمَّا أَئِمَّةُ الْمَسَاجِدِ فَلاَ يَجُوزُ لَهُمْ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالْإِمَامَةِ، فَيَمْنَعُهُمْ الْمُحْتَسِبُ مِنْ أَخْذِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ حَرَامٌ؛ فَإِنْ رُفِعَ إلَى الْإِمَامِ شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ جَازَ لَهُ أَخْذُهُ عَلَى سَبِيلِ الْهَدِيَّةِ، أَوْ الْهِبَةِ أَوْ الصِّلَةِ أَوْ الْبِرِّ. وَيَأْمُرُ الْمُحْتَسِبُ أَهْلَ الْقُرْآنِ بِقِرَاءَتِهِ مُرَتَّلًا، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ تَلْحِينِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتِهِ بِالْأَصْوَاتِ الْمُلَحَّنَةِ، كَمَا تُلَحَّنُ الْأَغَانِي وَ الْأَشْعَارُ، فَقَدْ نَهَى الشَّرْعُ عَنْ ذَلِكَ؛ وَلاَ يَأْتُونَ إلَى جِنَازَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَدْعِيَهُمْ وَلِيُّ الْمَيِّتِ، وَإِذَا أُعْطُوا شَيْئًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ عَلَى سَبِيلِ الصَّدَقَةِ جَازَ لَهُمْ أَخْذُهُ؛ فَأَمَّا اشْتِرَاطُهُ فَلاَ يَجُوزُ؛ فَيَعْتَبِرُ الْمُحْتَسِبُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ. وَلاَ يُغَسِّلُ الْمَوْتَى إلاَ ثِقَةٌ أَمِينٌ قَدْ قَرَأَ كِتَابَ الْجَنَائِزِ فِي الْفِقْهِ، وَعَرَفَ حُدُودَ ذَلِكَ؛ فَيَسْأَلُهُمْ الْمُحْتَسِبُ عَنْ ذَلِكَ، فَمَنْ كَانَ قَيِّمًا بِهِ تَرَكَهُ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ صَرَفَهُ لِيَتَعَلَّمَ. وَيَنْهَى الْمُحْتَسِبُ الْأَضِرَّاءَ وَأَهْلَ الْكُدْيَةِ الْمُقْنِفِينَ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْأَسْوَاقِ لِلْكُدْيَةِ، فَقَدْ نَهَتْ الشَّرِيعَةُ عَنْ ذَلِكَ؛ وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ إنْشَادِ الشِّعْرِ الَّذِي عَمِلَتْهُ الرَّوَافِضُ فِي أَهْلِ الْبَيْتِ، وَمِنْ ذِكْرِ الْمَصْرَعَ وَأَشْبَاهِهِ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ فِتْنَةٌ لِلْعَامَّةِ، فَلاَ يَصِحُّ ذِكْرُهُ..فَصْلٌ: وَيَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَرَدَّدَ إلَى مَجَالِسِ الْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ، وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ الْجُلُوسِ فِي الْجَامِعِ وَالْمَسْجِدِ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ الرَّجُلُ الْجُنُبُ وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ، وَالذِّمِّيُّ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالْحَافِي، وَمَنْ لاَ يَحْتَرِزُ مِنْ النَّجَاسَاتِ، فَيُؤْذُونَ الْمَسْجِدَ وَيُنَجِّسُونَ الْحُصْرَ؛ وَقَدْ تَرْتَفِعُ الْأَصْوَاتُ، وَيَكْثُرُ اللَّغَطُ فِيهِ عِنْدَ ازْدِحَامِ النَّاسِ وَمُنَازَعَتِهِمْ لِلْخُصُومِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ. وَقَدْ رَأَيْت مَكْتُوبًا فِي كِتَابِ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيِّ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الْمُسْتَظْهِرَ بِاَللَّهِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رحمه الله وَلَّى رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه الْحِسْبَةَ بِبَغْدَادَ، فَنَزَلَ الرَّجُلُ إلَى جَامِعِ الْمَنْصُورِ، فَوَجَدَ قَاضِيَ الْقُضَاةِ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ: "سَلاَمٌ عَلَيْك، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}. وَقَدْ مَكَّنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَلِيفَتَهُ الْمُسْتَظْهِرَ بِاَللَّهِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَرْضِهِ، وَبَسَطَ يَدَهُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ جَعَلَنِي وَإِيَّاكَ نَائِبَيْنِ عَنْهُ فِي ذَلِكَ، قَائِمَيْنِ فِي رَعِيَّتِهِ بِحُدُودِ اللَّهِ، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ؛ وَنَحْنُ أَوْلَى مَنْ يَعْمَلُ بِحُدُودِهِ، وَلُزُومِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ، لِيَقْتَدِيَ بِنَا الْعَامَّةُ. فَنَحْنُ مِلْحُ الْبَلَدِ، نُصْلِحُ مَا فَسَدَ مِنْ أَحْوَالِ الْعَامَّةِ، فَإِذَا فَسَدَ الْمِلْحُ مَنْ يُصْلِحُهُ ؟ وَمَجْلِسُك هَذَا لاَ يَصْلُحُ فِي الْجَامِعِ، أَمَا سَمِعْت قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ}. وَلَيْسَ فِي هَذَا الَّذِي أَنْتَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ وَإِنَّهُ لَتَدْخُلُ إلَيْك الْمَرْأَةُ لِتَحْكُمَ مَعَ بَعْلِهَا، وَمَعَهَا الطِّفْلُ فَيَبُولُ عَلَى الْحُصُرِ؛ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَمْشِي عَلَى النَّجَاسَةِ وَالْقَذَرِ، وَيَدُوسُ الْحُصُرَ بِنَعْلِهِ؛ وَإِنَّ الْأَصْوَاتَ لَتَرْتَفِعُ بِاللَّغَطِ خَارِجَ حَلْقَتِك؛ وَرُبَّمَا دَخَلَ إلَيْك الرَّجُلُ الْجُنُبُ وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ؛ وَجَمِيعُ ذَلِكَ أَمَرَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم بِاجْتِنَابِهِ. فَاجْلِسْ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ، بِحَيْثُ لاَ يَشُقُّ عَلَى أَحَدٍ الْقَصْدُ إلَيْك، وَالسَّلاَمُ ". قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: فَنَهَضَ الْقَاضِي مِنْ وَقْتِهِ، وَلَمْ يَعُدْ يَجْلِسُ فِي الْجَامِعِ لِلْقَضَاءِ. وَمَتَى رَأَى الْمُحْتَسِبُ رَجُلًا يَسْفَهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، أَوْ يَطْعَنُ عَلَى الْحَاكِمِ فِي حُكْمِهِ، أَوْ لاَ يَنْقَادُ إلَى حُكْمِهِ، عَزَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا إذَا رَأَى الْقَاضِيَ قَدْ اسْتَشَاطَ عَلَى رَجُلٍ غَيْظًا، أَوْ شَتَمَهُ أَوْ احْتَدَّ عَلَيْهِ فِي كَلاَمِهِ، رَدَعَهُ عَنْ ذَلِكَ وَوَعَظَهُ، وَخَوَّفَهُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ وَهُوَ غَضْبَانُ، وَلاَ يَقُولَ هُجْرًا، وَلاَ يَكُونَ فَظًّا غَلِيظًا؛ وَكَذَلِكَ يَكُونُ غِلْمَانُهُ وَأَعْوَانُهُ الَّذِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِذَا كَانَ فِيهِمْ شَابٌّ حَسَنُ الصُّورَةِ فَلاَ يَبْعَثُهُ الْقَاضِي لِإِحْضَارِ النِّسْوَانِ. وَيَنْبَغِي عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَجْلِسَ لِلنَّاسِ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ، لِئَلاَ يَشُقَّ عَلَى النَّاسِ الْقَصْدُ إلَيْهِ..فَصْلٌ: وَأَمَّا الْوُكَلاَء الَّذِينَ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي فَلاَ خَيْرَ فِيهِمْ، وَلاَ مَصْلَحَةَ لِلنَّاسِ بِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ رَقِيقُ الدِّينِ يَأْخُذُ مِنْ الْخَصْمَيْنِ، ثُمَّ يَتَمَسَّكُونَ فِيهِ بِسُنَّةِ الشَّرْعِ، فَيُوقِفُونَ الْقَضِيَّةَ، فَيَضِيعُ الْحَقُّ وَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنَ يَدَيْ طَالِبِهِ وَصَاحِبِهِ. فَإِذَا حَضَرَ الْخَصْمَانِ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَإِنَّ الْحَقَّ يَظْهَرُ سَرِيعًا مِنْ كَلاَمِهِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَكِيلٌ، فَكَأَنَّ تَرْكَ الْوُكَلاَءِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَوْلَى مِنْ نَصْبِهِمْ، إلاَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ امْرَأَةٌ غَيْرُ بَرْزَةٍ أَوْ صَبِيٌّ، فَحِينَئِذٍ يُوَكِّلُ عَنْهَا الْحَاكِمُ وَكِيلًا..فَصْلٌ: وَيَقْصِدُ الْمُحْتَسِبُ مَجَالِسَ الْوُلاَةِ وَالْأُمَرَاءِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَيَعِظُهُمْ وَيُذَكِّرُهُمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالشَّفَقَةِ عَلَى الرَّعِيَّةِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ، وَيَذْكُرُ لَهُمْ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَلْيَكُنْ فِي وَعْظِهِ وَقَوْلِهِ فِي رَدْعِهِمْ عَنْ الظُّلْمِ لَطِيفًا ظَرِيفًا، لَيِّنَ الْقَوْلِ بَشُوشًا، غَيْرَ جَبَّارٍ وَلاَ عَبُوسٍ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم {وَلَوْ كُنْت فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك}؛ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْحِكَايَةُ عَنْ الْمَأْمُونِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ..فَصْلٌ: وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَرْبَابِ الْحِرَفِ الْمَذْكُورَةِ وَالصَّنَائِعِ الْمَشْهُورَةِ فِي كِتَابِي هَذَا، فَلاَ يَخْفَى عَلَى الْمُحْتَسِبِ كَيْفِيَّةُ الْحِسْبَةِ عَلَيْهِمْ، وَالتَّطَرُّقُ إلَى كَشْفِ تَدْلِيسِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ سَهْلٌ يُعْرَفُ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْعِيَانِ: مِثْلُ الْحِسْبَةِ عَلَى الْبَقَّالِينَ وَبَاعَةِ الْخَضْرَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِبَيْعِ الْبُقُولِ مَغْسُولَةً مِنْ السِّرْجِينِ، مُنَقَّاةً مِنْ الْحَشِيشِ وَالطَّاقَاتِ الْمُصَفِّرَةِ؛ وَ يَأْمُرُهُمْ بِقَطْعِ شَغَفِ أُصُولِ الْخَسِّ وَالْفُجْلِ؛ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ غَسْلِ الْبَصَلِ وَالثُّومِ الرَّطْبَيْنِ، فَإِنَّ الْمَاءَ يَزِيدُهُمَا زَفْرَةً وَنُتُونَةً؛ وَإِذَا بَاتَ فِي دَكَاكِينِهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَلاَ يَخْلِطُونَهُ بِالطَّرِيِّ الْمَقْطُوعِ فِي الْيَوْمِ. وَيَنْهَاهُمْ الْمُحْتَسِبُ عَنْ بَيْعِ مَا دَوَّدَ مِنْ الْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالتِّينِ وَالرُّطَبِ، وَمَا قَدْ تَنَاهَى نُضْجُهُ حَتَّى تَهَرَّى قِشْرُهُ مِنْ ذَلِكَ. وَ مِثْلُ الباقلائيين، يَنْهَاهُمْ عَنْ بَيْعِ مَا سَوَّسَ مِنْ الْبَاقِلاَ وَالْحِمَّصِ، وَعَنْ خَلْطِ مَا بَقِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَمْسِ فِيمَا سَلَقُوهُ الْيَوْمَ؛ وَيَأْمُرُهُمْ أَنْ يَنْثُرُوا عَلَيْهِ الْمِلْحَ الْمَسْحُوقَ وَالصَّعْتَرَ، لِيَدْفَعَ مَضَارَّهُ؛ وَيَتَفَقَّدُ مَكَايِيلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ قِطْعَةً مِنْ خَشَبٍ يَحْفِرُونَهَا مِكْيَالًا، فَيَكُونُ طُولُهَا شِبْرًا مَثَلًا، وَالْمَحْفُورُ مِنْ دَاخِلِهَا أَرْبَعَ أَصَابِعَ، فَيَغْتَرُّ النَّاسُ بِسَعَتِهَا وَطُولِهَا، وَلاَ يَعْلَمُونَ الْمِقْدَارَ الْمَحْفُورَ مِنْهَا؛ وَهَذَا تَدْلِيسٌ لاَ يَخْفَى. وَمِثْلُ بَاعَةِ الْخَزَفِ وَالْكِيزَانِ وَالْأَوَانِي، فَإِنَّهُمْ يَطْلُونَ مَا كَانَ مَثْقُوبًا مِنْهَا أَوْ مَشْقُوقًا بِالْكِلْسِ الْمَعْجُونِ بِالشَّحْمِ وَبَيَاضِ الْبَيْضِ وَالْخَزَفِ الْأَحْمَرِ الْمَسْحُوقِ. وَمِثْلُ الْغَسَّالِينَ، يَنْهَاهُمْ الْمُحْتَسِبُ عَنْ غَسْلِ ثِيَابِ النَّاسِ بِالْمَاءِ الْمَطْبُوخِ فِيهِ الْقَلْيُ وَالنَّوْرَةُ وَالنَّطْرُونُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالْمَلاَبِسِ وَيُبْلِيهَا سَرِيعًا، وَيُوَلِّدُ فِيهَا الْقُمَّلَ وَالصِّئْبَانَ. وَمِثْلُ السَّقَّائِينَ وَأَصْحَابِ الرَّوَايَا وَالْقِرَبِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِالدُّخُولِ فِي النَّهْرِ، حَتَّى يَبْعُدُوا عَنْ الشَّطِّ وَمَوَاضِعِ الْأَوْسَاخِ؛ وَلاَ يَسْتَقُونَ مِنْ مَوْضِعٍ فِي النَّهْرِ بِقُرْبٍ مِنْ سِقَايَةٍ لِلدَّوَابِّ أَوْ مُسْتَخْدَمٍ أَوْ مَجْرَى حَمَّامٍ؛ بَلْ يَصْعَدُونَ عَنْهُ أَوْ يَبْعُدُونَ مِنْ تَحْتِهِ؛ وَمَنْ اتَّخَذَ مِنْهُمْ رَاوِيَةً جَدِيدَةً أَمَرَهُ الْمُحْتَسِبُ بِنَقْلِ الْمَاءِ إلَى مَعَاجِنِ الطِّينِ أَيَّامًا، وَلاَ يَبِيعُهُ لِلشُّرْبِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَغَيِّرَ الطَّعْمِ وَالرَّائِحَةِ مِنْ أَثَرِ الدِّبَاغَةِ وَالزِّفْتِ، فَإِنْ زَالَ التَّغَيُّرُ أَذِنَ لَهُ الْمُحْتَسِبُ بِبَيْعِهِ لِلنَّاسِ لِلشُّرْبِ وَالِاسْتِعْمَالِ. وَيَأْمُرُهُمْ الْمُحْتَسِبُ أَنْ يَشُدُّوا فِي أَعْنَاقِ دَوَابِّهِمْ الْأَجْرَاسَ وَصَفَاقَاتِ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ، لِتَعْلُوَ جَلَبَةُ الدَّابَّةِ إذَا عَبَرَتْ فِي سُوقٍ أَوْ مَحَلَّةٍ، فَيَحْتَرِسُ مِنْهَا الضَّرِيرُ وَالصِّبْيَانُ وَالْإِنْسَانُ الْغَافِلُ؛ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الْمُكَارِيَةُ وَحَمَّالُو الْحَطَبِ بِدَوَابِّهِمْ. وَيُجْبِرُهُمْ الْمُحْتَسِبُ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، وَلاَ يُحَمِّلُونَ الدَّوَابَّ أَكْثَرَ مِنْ طَاقَتِهَا، وَلاَ يَسُوقُونَهَا سَوْقًا شَدِيدًا تَحْتَ الْأَحْمَالِ، وَلاَ يَضْرِبُونَهَا ضَرْبًا قَوِيًّا، وَلاَ يُوقِفُونَهَا فِي الْعِرَاصِ وَعَلَى ظُهُورِهَا أَحْمَالُهَا، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ نَهَتْ الشَّرِيعَةُ الْمُطَهَّرَةُ عَنْ فِعْلِهِ. وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُرَاقِبُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي عَلَفِ الدَّابَّةِ وَعَلِيقِهَا، وَيَكُونُ مُوَفَّرًا عَلَيْهَا بِحَيْثُ يَحْصُلُ بِهِ الشِّبَعُ، وَلاَ يَكُونُ مَبْخُوسًا وَلاَ نَزْرًا. وَلَوْ شَرَعْت أَنْ أَذْكُرَ جَمِيعَ مَا يَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَفْعَلَهُ مِنْ أُمُورِ الْحِسْبَةِ لَطَالَ الْكِتَابُ، وَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ حَصْرٌ، وَلَكِنِّي قَدْ وَضَعْت أُصُولًا وَقَوَاعِدَ يَقِيسُ عَلَيْهَا الْمُحْتَسِبُ مَا يُجَانِسُهَا. وَلَعَمْرِي إنَّ الضَّابِطَ فِي أُمُورِ الْحِسْبَةِ هُوَ الشَّرْعُ الْمُطَهَّرُ، فَكُلُّ مَا نَهَتْ الشَّرِيعَةُ عَنْهُ يَكُونُ مَحْظُورًا، وَوَجَبَ عَلَى الْمُحْتَسِبِ إزَالَتُهُ وَالْمَنْعُ مِنْ فِعْلِهِ، وَمَا أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ أَقَرَّهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ. وَلِهَذَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَسِبُ فَقِيهًا عَالِمًا بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَمَتَى كَانَ الْمُحْتَسِبُ جَاهِلًا اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ، وَوَقَعَ فِي الْمَحْظُورِ وَالْمَحْذُورِ؛ وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَوْنَ وَالْعِصْمَةَ وَالتَّوْفِيقَ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. |